الوطن حفنة تراب؟ ... الدونية وكره الوطن بإسم الدين

القومية

1 دقيقة

نزلت في ٢٤‏/١١‏/٢٠٢٣

الوطن حفنة تراب؟ ... الدونية وكره الوطن بإسم الدين

الصورة المشوهة للوطن في عقلية التيارات الإسلامية والمتأثرين بهم من حدثاء الأسنان

قامت التيارات والجماعات الإسلامية خلال الثمانين عاماً الماضية بصناعة فكر سقيم حاولت فيه أن تبني تصورا عن عدد من القضايا الكبرى رغم افتقارهم للأدوات الصحيحة لفهم الشرع، واستغلوا الجو النفسي المتأزم والمتوتر الناتج من انهيار الخلافة الإسلامية، واحتلال فلسطين، والضغوط النفسية للسجون.

فتولد عندهم فقه في غاية التشوه، حول الصورة المستقرة لبعض القضايا لصورة منحرفة ومختزلة ومن أهم تلك القضايا هي قضية الوطن

الوطن في عقول هؤلاء يتمثل في صورة مركبة من عدد من المبادئ الغريبة والمنحرفة، وهي:

  • الوطن حفنة من التراب لا قيمة لها.

  • حب الوطن انفعال بشري سخيف لابد من البراءة منه.

  • رفض فكرة الوطن لأنها في نظرهم مقابل الخلافة.

  • الاوطان حدود جغرافية صنعها الاستعمار ويجب إزالتها.

  • الأوطان هي المساكن التي ترضونها والتي ذمها الله.

هذه هي المباديء العامة في ذهن هؤلاء والتي تم من خلالها تشويه فكرة الوطن والانتماء إليه والتنفير من حبه والتعلق به.

وفي سبيل تفنيد هذه الأفكار .. ننقل أولاً بعض من مقولات سيد قطب عن الوطن:

qoute

إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها القوم، الوطن، الشعب، إلي آخر ما يسمونه، وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كأصنام الوثنيون ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله في خلقه

ويقول أيضاً:

qoute

إن الجاهليات تجعل الرابطة آناً هي الدم وآنا هي الأرض والوطن وآنا هي اللون واللغة وأنا هي الجنس والعنصر وكلها تصورات جاهلية

هذه بعض مقولاتهم عن الوطن والتي بها تصوير اختزالي

فالوطن ليس حفنة تراب بل هو شعب وحضارة ومؤسسات وتاريخ وانتصارات وقضايا ومكانة إقليمية ودولية ورجال عباقرة صنعوا تاريخ هذا الوطن في العلم والأدب والفنون والتاريخ العسكري والدبلوماسي وغيرها من المجالات، فتجاهل كل هذه المكونات التي تصنع الوطن واختزالها في حفنة من التراب يمثل عقوقا وفهما مشوها.

qoute

أما حب الوطن فهو انفعال بشري طبيعي فطري وعلى عكس تشوهات سيد قطب، فالاسلام لم يلغي أبداً الأوطان.

وأشار إلي ذلك حجة الإسلام الامام الغزالي في كتابه الوسيط : "ولكن في بواعث الطباع مندوحة عن الايجاب لأن قوام الدنيا بهذه الأسباب وقوام الدين موقوف علي قوام أمر الدنيا".ومن هذه الأمور التي ينتجها الفطرة السليمة هي حب الوطن والانتماء إليه.

ويقول رضي الله عنه في موضع آخر:

qoute

والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص

وهنا يقر غريزة حب الوطن والتعلق به وكذلك الغضب من أجله والدفاع عنه.

وروي الأصمعي، سمعت أعرابياً يقول:

qoute

ذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلي أوطانه

هل فعلاً الأديان ألغت الأوطان؟

إن الشرع الشريف لم يمنع وجود انتماءات جزئية في إطار الانتماء الكلي، فسمح بمحبة البقعة المحددة التي ولد فيها الإنسان وتربي فيها وهي موطنه الأصلي وتشكل له هويته ولا يتعارض ذلك أبداً مع محبته لدينه والانتماء اليه، ولا يتعارض مع محبته لعالمه الإسلامي.

فالدين والوطن خطان متوازيان لا يلتقيان فلا يُعقل أبداً أن حب الوطن والإنتماء له يعني الخروج من الإسلام أو أن الإنتماء لدين معين يعني التنصل من الوطن. الوطن شئ والدين شئ و لا تشابه بينهم حتى نضعهم في تصادم مع بعضهم البعض.

وانتماء الإنسان لوطنه لا يلغي انتماؤه الديني للعالم الاسلامي فهي دوائر متداخله وليست متعارضه.

هل الأوطان هي المساكن التي ترضونها، والتي ذمها الله؟

والمشار إليها في الآية: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[ التوبة: 24]

قامت تلك التيارات بصناعة فهم مغلوط يتصورون فيه أن الاوطان هي تلك المساكن واذا صارت أحب إلينا من الله ورسوله فهذا فسق.

هذا الفهم المغلوط نسب للقرآن عكس ما يريد وذلك بسبب جهلهم بعلوم الآلة كعلوم النحو والبلاغة وأصول الفقه والتفسير، فالقرآن عربي ولا يمكن فهمه إلا بتلك الأدوات

أما هذه الآية فتتحدث عن شخص جعل أموره الشخصية كتعلقه بأبيه وابنه وماله ومنزله الشخصي مقدما علي القضايا الكبري كالوطن والدفاع عنه والجهاد في سبيل الله.

بحيث إذا قلنا وطنك في خطر و وجب عليك الجهاد في سبيله بالدفاع عنه، فاترك منزلك وأموالك وتعال للدفاع عنه، فإنه يتخاذل لأن منزله الشخصي أحب إليه من الوطن والتي سماها الله جهاداً في سبيله.

فتفسير الآية مخالف ومعاكس لتلاعب هؤلاء بفهم القرآن.. فالفهم الصحيح للآية يجعل حب الله والوطن في كفة والأنانية الشخصية في كفة أخري.

qoute

بل علي العكس هناك الكثير من الأدلة علي حب الوطن في القرآن الكريم وكلام المفسرين.

فللإمام فخر الدين الرازي ملمح في تفسير قوله " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم ".[ سورة النساء: 66]قال: (فقد جعل مفارقة الأوطان مساوية لقتل النفس).

قال العلامة الملا علي القاري: "ومفارقة الاوطان المألوفة هي أشد البلاء " ومن ثم فُسّر قوله تعالي " والفتنة أشد من القتل" بالإخراج من الوطن لأنه عقب بقوله " وأخرجوهم من حيث أخرجوكم"

حب الوطن في الحديث النبوي الشريف

من حديث أنس أن النبي كان إذا قدم من سفر فنظر إلي جدرات المدينة أوضع راحلته وإن كان علي دابه حركها من حبها

qoute

"قال بن حجر في شرح الحديث: "وفي الحديث دلالة علي مشروعية حب الوطن والحنين إليه".

بل جعل العلماء حب الوطن هو علة مشقة السفر وليس العلة الجسدية والتعب والارهاق بل العلة النفسية في مفارقة الوطن، ولذلك شرح بعض العلماء الحديث الذي رواه أحمد عن النبي أنه قال: "ثلاثة يستحب دعوتهم الوالد لولده، والمسافر، والمظلوم علي ظالمه".

فعلل الشراح سبب استجابة دعاء المسافر هو ما يعانيه من حزن لمفارقة وطنه.

حب الوطن عند الفقهاء

علل بعض الفقهاء حكمة الحج وعظم ثوابه إلي أنه يهذب النفس بفراق الوطن، قال الامام القرافي :

qoute

ومصالح الحج: تأديب النفس بمفارقة الاوطان

حب الوطن عند الأولياء والصالحين

قال سيد الزهاد ابراهيم بن أدهم :

qoute

ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد عليا من مفارقة الاوطان

ولقد اهتم علماء المسلمين وصنفوا الكتب في حب الوطن منها "حب الوطن" للجاحظ و "النزوع الي الاوطان" للسمعاني و "الحنين إلى الاوطان" لأبي حيانوغيرهم الكثير ممن ألفوا في هذا الباب.

ختاماً

أي كلام عن خلق صدام وهمي بين حب الوطن والإنتماء لدين معين هو من صنع خيال منظمات تعتبر الوطن مجرد حفنة تراب وأنه عبادة أوثان.. لكن عبادة المرشد والسمع والطاعة بدون جدال ليس وثنية .

خلاصة القول، الوطن والدين شيئان مختلفان تماماً لا يجب أبداً أن نضعهم في مقارنة أو في صدام مع بعضهم البعض.. والوطن حتى لو كان صحراء أو "حفنة تراب" فهو وطننا مهما كان وضعه أر منجزاته الحضارية.

شير المقالة عن طريق

تاجات

الاخوانالدونيةسيد قطب

اقرا كمان